بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
لماذا تتعدد الروايات في الأحاديث النبوية ؟
عندما نقرأ ببعض كتب الحديث تمر علينا عبارات مشهورة -في رواية فلان كذا- أو -في رواية أخرى كذا-، فهذه الظاهرة لابد أن لها أسباباً، فما تعدد الروايات في الحديث النبوي الشريف؟ هناك أسباب عدة ذكرها د. شرف محمود القضاة أوجزها فيما يلي:
أولاً: تعدد الحادثة:
أي أن يذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - الحديث أكثر من مرة بألفاظ مختلفة، فمن المعلوم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يذكر الحديث مرة واحدة طوال سنوات البعثة النبوية، بل كان يذكر المعنى كلما وجد حاجة لذكره تبليغاً وتعليماً للجاهل به، وتذكيراً للعالم به، ومن المعلوم أن لفظ الحديث النبوي من عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولذلك فإننا نجده يعبر عن المعنى بألفاظ متعددة، ولكن مع اتحاد المعنى، فإن اختلف المعنى، فذاك من الرواة لا من الرسول - صلى الله عليه وسلم -، إلا أن يكون من قبيل النسخ في الأحكام.. والله أعلم.
مثاله: عن أبي ذر - رضي الله عنه - قال: خرجت ليلة من الليالي، فإذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمشي وحده وليس معه إنسان.. فمشيت معه ساعة.. قلت: يانبي الله جعلني الله فداك، من تكلم في جانب الحرة؟ ماسمعت أحداً يرجع إليك شيئاً، قال: ذلك جبريل - عليه السلام - عرض لي في جانب الحرة، قال: بشر أمتك إنه من مات لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة... الحديث.. -رواه البخاري-.
وفي رواية عن جابر، قال: أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - رجل، فقال: يارسول الله ما الموجبتان؟ فقال: من مات لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة، ومن مات يشرك بالله شيئاً دخل النار -مسلم-.
ثانياً: الرواية بالمعنى:
فكان الراوي يسمع الحديث فيعيه ويحفظه، فإذا احتاج إلى ذكره بعد مدة - قد تصل إلى عشرات السنين - فمن العسير جداً أن يذكره بالألفاظ نفسها التي سمعها، فيذكره بالمعنى.
كحديث عبدالله بن عمر، قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قام للصلاة رفع يديه حتى يكونا حذو منكبيه، ثم كبر، فإذا أراد أن يركع فعل مثل ذلك، وإذا رفع من الركوع فعل مثل ذلك، ولا يفعله حين يرفع رأسه من السجود.
فقد روى ابن عمر وغيره هذا الحديث بألفاظ أخرى، منها رواية مالك بن الحويرث، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا كبر رفع يديه حتى يحاذى بهما أذنيه، وإذا ركع رفع يديه حتى يحاذى بهما أذنيه. -مسلم-.
ثالثاً: اختلاف القدرة على الحفظ:
فيسمع بعض الصحابة - رضي الله عنهم - أو بعض الرواة الآخرين حديثاً طويلاً، فبعضهم يحفظه كله، وبعضهم يحفظ بعضه -لاسيما قبل شيوع التدوين - فيروى كل منهم ما حفظ، فتتعدد رواية الحديث الواحد، زيادة ونقصانا، كما تتعدد الألفاظ بسبب الرواية بالمعنى.
مثاله: عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: قام فينا النبي - صلى الله عليه وسلم - مقاماً فأخبرنا عن بدء الخلق حتى دخل أهل الجنة منازلهم، وأهل النار منازلهم حفظ ذلك من حفظه ونسيه من نسيه. -البخاري، أبو داود، الترمذي، أحمد-.
رابعاً: اختصار الراوي للحديث:
أي أن يكون الراوي حافظاً للحديث كله، ولكن يكتفي بذكر جزء منه، يقتضيه الحال، فيظن بعض الرواة أن ما سمعه هو كل الحديث ويرويه كما سمعه، وهكذا تتعدد روايات الحديث زيادة ونقصان.
ومن الأمثلة حديث -ذو اليدين- عن أبي هريرة:
1 - صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - الظهر ركعتين، فقيل: صليت ركعتين فصلى ركعتين ثم سلم ثم سجد سجدتين -البخاري-.
2 - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - انصرف من اثنتين، فقال له ذو اليدين: أقصرت الصلاة، أم نسيت يارسول الله؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أصدق ذو اليدين؟ فقال الناس: نعم، فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فصلى اثنتين أخريين، ثم سلم، ثم كبر، فسجد مثل سجوده أو أطول، ثم رفع. -البخاري-.
خامساً: حضور الراوي بعض الحديث:
فقد كان بعض الصحابة يدخل ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحدث فيفوته ما قاله - صلى الله عليه وسلم - قبل دخوله، كالنفر الثلاثة الذين أقبلوا، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالس في المسجد والناس معه، فأقبل اثنان إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وذهب واحد.. الحديث.. -البخاري.
سادساً: تعدد الإجابات لكثرة المسؤولين:
فقد كان من أساليب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في تعليمه لأصحابه أن يبدأهم بالسؤال تنبيها لأذهانهم، واستثارة لاهتمامهم، ثم بعد أن يسمع منهم يخبرهم بالجواب، فيكون ذلك أوقع في النفس، وكلما كان عدد المسؤولين أكثر أصبحت احتمالات تعدد الأجوبة أكثر، فتتعدد روايات الحديث.
مثاله: في خطبة النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم النحر في حجة الوداع، فقد سألهم الرسول - صلى الله عليه وسلم -: أي يوم هذا؟ أي بلد هذا؟ أي شهر هذا؟، فكان الرد:
1 - قالوا يوم حرام.
2 - قلنا: الله ورسوله أعلم.
3 - قالوا: يوم النحر. -ابن ماجة-.
سابعاً: الخطأ:
وقد يقع الخطأ في الحديث من أحد الرواة على حالات عدة، فقد يكون قلباً أو تصحيفاً أو إدراجاً أو زيادة مخالفة للأوثق أو خلافا يورث اضطرابا أو إدخال حديث في حديث آخر وهماً أو فهماً غير صحيح للمعنى، أو رواية بالمعنى بعبارات لا تقيده بشكل دقيق.
مثاله: حديث إذا سجد أحدكم فلا يبرك كما يبرك البعير، وليضع يديه قبل ركبتيه -أبو داود، أحمد-.
بينما تذكر روايات أخرى كثيرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا سجد وضع ركبتيه قبل يديه، وإذا نهض رفع يديه قبل ركبتيه -أبو داود، الترمذي-.
فهذا الحديث مما قيل أنه وقع في إحدى روايتيه قلب، والبعض يرى أن الثانية ناسخة للأولى. -ابن خزيمة 1/319.
ثامناً: الكذب:
وهو من الأسباب التي تجعل بين الروايات اختلافا في بعض الحالات القليلة نسبياً ويكون ذلك بأن يزيد الكذاب شيئاً في الحديث المقبول، بحيث يتغير معناه، فالحديث له أصل، ولكنه يرويه بشكل مختلف لا خطأ وإنما عمداً.
ومثاله: حديث.. أنا خاتم النبيين لا نبي بعدي -أبو داود-.. رواه محمد بن سعيد الشامي - الذي صـلب للزندقة - عن حميد عن أنس مرفوعاً أنا خاتم النبيين لا نبي بعدي إلا أن يشاء الله -زاد في الحديث إلا أن يشاء الله ذكره السيوطي.
من هذا يتبين أن التعدد الناتج عن الحالات الست الأولى مقبول، ولا يرد الحديث بسببها، وأما الحالتان السابعة والثامنة فتردان إلى الروايات الصحيحة؛ لأن الحالات الست الأولى لا تغير المعنى، وهو المهم في أكثر الأحاديث النبوية الشريفة..والحمد لله رب العالمين.
دمتم برعاية الله