الشعور بالأنا والشعور بالغير
ما الفرق بين المفاهيم التالية: (( الأنا والذات والغير))؟
مفهو الأنا
• الأنا من الناحية اللغوية هو ضمير المتكلم.
• من الناحية الاصطلاحية هي كلمة تشير إلى النفس المدركة والتي يعرفها الطبيب والشيخ الرئيس بن
سينا 980/1037م بقوله (( ماهية ثابتة وقارة خلف ووراء كل الأعراض والمتغيرات التي لا يتوقف بدنه
عن معرفتها.))
• الأنا في التحديد الفلسفي كلمة تطلق على الذات المفكرة الواعية والعارفة لنفسها والتي يأتي في مقابلها
الموضوعات الأخرى التي تتميز عنها.
مفهوم الذات:
• الذات من الناحية اللغوية تعني النفس أو العين فقولنا ذات الشيء معناه نفسه وعينه.
• من الناحية الاصطلاحية الذات هي النفس أو الشخص.
• الذات من الناحية الفلسفية فهي الجوهر الثابت القائم بذاته والذي لا يتغير على الرغم مما يلحقه من تغير
في أعراضه مثل الصحة والمرض والغنى والفقر والصبا والهرم، كما تعني الذات الماهية المعبرة عن
حقيقة الموضوع أو الشيء، مثل قولنا ماهية الانسان معناه حقيقته وجوهره الذي يميزه عن غيره من
الموجودات الأخرى مثل خاصية التفكير أو العاقلية.
مفهوم الغير
• الغير في اللغة العربية هو المخالف والمعارض وهو أحيانا الطرف المقابل الأسوأ، ويتأكد هذا المعنى
في اللغة اللاتينية فالغير في الفرنسية autroui كلمة مشتقة من alter ومعناها الأجنبي والمخالف.
• من الناحية الفلسفية الغير هو خلاف الأنا أو الهوية وهو اللاأنا أو الآخر الذي يشير إلى كل موجود
خارج الذات المدركة مغايرا لها ومستقلا عنها.
والمشكلة المطروحة في هذا الموضوع تخص علاقة الأنا بالغير، وقد اختلف الفلاسفة في تقديرها
وتوصيفها بحسب تصورات مذاهبهم لها، ويمكن صياغة المشكلة في السؤال التالي:
المقدمة (( طرح المشكلة ))
هل معرفة الشخص لذاته متوقفة على معرفته بذاته أم متوقفة على معرفته بذات غيره، أو نقول هل نعرف
أنفسنا من خلال أنفسنا أم نعرف أنفسنا من خلال غيرنا؟
الطرح الاول(( معرفة الذات لذاتها متوقف على وعي الذات بذاتها
• نظرية الوعي أساس تشكيل الذات فكرة عبر عنها الفرنسي رونيه ديكارت توفي سنة 1650م بمقولة
الكوجيطو(( أنا افكر إذن أنا موجود)) لأنه بالوعي تتحقق صفة الوجود الفعلي والحقيقي للإنسان
((للذات)) في هذا العالم، ووجود الانسان بدونه يساوي العدم أو اللاوجود.
• وقد عبر الفيلسوف الفرنسي مين دي بيران1766/1824م عن نفس الفكرة بقوله (( قبل أي شعور
بالشيء، فلا بد من ان الذات وجود)) وبقوله أيضا (( إن الشعور يستند إلى التمييز بين الذات الشاعرة
والموضوع المشعور به.))
مناقشة
• لكن هل الوعي يمكن الذات من معرفة حقيقتها؟ أو بصيغة أخرى إذا كان شعوري يسمح لي بمعرفة
إنني موجود كذات مستقلة عن الآخر ويمكنني من توجيه سلوكاتي وتحديد موضوعاتي التي تقابلني، فهل
يمكنني من معرفة من أنا معرفة حقيقية ؟
• إن وعي الذات لذاتها هدف تقول به مدرسة الاستبطان كمدرسة من مدارس علم النفس وهي مدرسة
تدعو الإنسان إلى استبطان ذاته باعتباره ادري الناس بها والتعبير عن هذا الاستبطان بالكلام فهي مدرسة
تحول الإنسان إلى دارس ومدروس في نفس الوقت وهذا أمر مستحيل من وجهة نظر منطقية وعلمية.
• الشعور من وجهة نظر فرويد 1856/1939م غير قادر على الوصول إلى معرفة اللاشعور باعتباره
مرتبة من مراتب النفس وبالتالي غير قادر على معرفة الذات معرفة حقيقية.
• أحيانا يعتقد الإنسان خطا أن وعيه قادر على معرفة ذاته فيقع في مغالطة مع نفسه، أي ان الصورة التي
يشكلها وعيه حول ذاته تكون مخادعة أو مخيبة، لان الكثير من عواطفنا ومدركاتنا معرضة لتأثيرات
الآخرين مما توقعنا في الخطأ أو الخداع.
• وفي ذات السياق اعترض سبنوزا1632/1677م على تفسير الذات بالشعور، فوصف الشعور بالوهم
والمغالطة، واعتقاد الناس بأنهم أحرارا في تصرفاتهم برأيه ظن خاطيء لعدم وعيهم بسلطان رغباتهم
وشهواتهم، إنهم لا يعلمون شيئا عن الأسباب المتحكمة والموجهة لشعورهم. ومثاله في ذلك السكير الذي
يتوهم انه يتحدث عن وعي وعن إرادة حرة في موضوعات يتجنب الحديث عنها في حالة صحوه، ولكنه
في الواقع هو تحت تأثير الخمرة ولا يعي ما يقول.
• وأمام كل هذه الاعتراضات فأن كل محاولة لمعرفة ذاتنا من خلال وعينا بذاتنا تبدو مهمة مستحيلة
وغير مجدية، الأمر الذي يستلزم أن نطلب معرفة ذواتنا من خلال وجهة نظر غيرنا الذي يقابلنا ويغايرنا
ويناقضنا، لان حكم الغير علينا-رغم عدم دقته- إلا انه يعتبر خطوة ضرورية في بلورة صورة مميزة عن
أنفسنا.
الطرح الثاني(( معرفة الذات لذاتها تتوقف على التقابل والمغايرة والتناقض مع الغير)).
معرفة الذات تتوقف على المغايرة
• إذا كانت الذات تتعرف مباشرة على نفسها بوعيها الذي يتميز بالإرادة والقصدية والفعالية، كما أنها
تتجلى لنفسها كفردية مميزة عندما تقابل الآخر الذي يظهر مغايرا لها، هذا الطرح القائم على المقابلة
والمغايرة بين الذات والغير قال به الفلاسفة العقلانيون ((ديكارت المتوفي سنة 1650م والإنجليزي
باركلي 1685/1753م))ويتمثل عندهم في إن الإنسان يستطيع بواسطة عقله عزل الموضوعات والأشياء
والأشخاص أو غيرها من خلال التأمل فيها وفحصها ومن ثمة تمييزها عن بعضها من خلال كيفياتها
فيحقق لها بذلك هويتها المميزة لها.
• كما أن العقل عند مقارنته بين أفعالنا ولفعال غيرنا يلاحظ وجود صفات مشتركة وفق قانون المماثلة،
فالإنسان عندما يرى غيره مبتسما يحكم بأنه مسرورا، وهذا يعني إننا إذا أردنا أن نعرف الغير فأننا
نلاحظ أنفسنا ونحكم بعد ذلك على الغير بما نعرفه عن أنفسنا. إلا أن هذه العلاقة القائمة على قانون
المماثلة تبقي الآخر دائما خارجا عن الذات ومتميزا عنها ومغايرا لها.
• ومن هنا فأن وجود الآخر والشعور به والاتصال معه فعلان يتمان بواسطة العقل وان المقارنة التي يقوم
بها العقل بين الذات والغير والأشياء والموضوعات هي التي تقف وراء تحديد كيفيات هذه الأشياء
والأشخاص والموضوعات وتميزها.
• كما رأى الفرنسي جون بول سارتر أن الآخر يعتبر مقوما أساسيا ومكونا للأنا والوعي به وفي ذلك
يقول(( فوجود الآخر شرط لوجودي، وشرط لمعرفة نفسي، وعلى ذلك يصبح اكتشافي لدواخلي اكتشافا
للآخر.))
• وقال أيضا(( إني في حاجة إلى وساطة الغير لأكون ما أنا عليه.))
معرفة الذات تتأسس على التناقض
يرى الألماني هيغل1770/1831م في سياق علاقة الأنا بالغير إن وجود الآخر ضروري لوجود الوعي
بالذات، وهي علاقة أساسها التناقض والصراع كعلاقة السيد بعبده، فكل واحد منهما يثبت ذاته من خلال
وجود الآخر، فالسيد يتناقض مع خصمه العبد لكنه لا يقتله بل يبقيه حتى يجسد من خلاله سيادته وملكه له
ويعزز قوة ذاته فيه، والعبد يتناقض مع سيده الخصم لكنه يثبت ذاته من خلال القيام بالأعمال التي كلفه بها
سيده مهما كانت درجة صعوبتها، هذا الصراع يؤدي في النهاية إلى أن يدرك كل منهما أناه وفي الوقت
نفسه يدرك خصمه الذي هو الآخر.ومعرفة الخصم الآخر ليس الهدف منها المعرفة وعزل الإنسان نفسه
عنه، بل هي معرفة الهدف منها التغلب عليه والتحرر منه، على اعتبار أن الآخر شر لا بد منه.
مناقشة
• إن المغايرة لا تعني الأنا المنفرد بالوجود دون غيره، وهي ليست على الدوام علاقة صراع، فالمغايرة
نفسها تولد التقارب والتفاهم والتجاذب، وهي علاقة اقرها الرب سبحانه وتعالى في كتابه بقوله(( ولولا
دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين.))
• كما أن الاختلاف في التصورات والمواقف مهما بلغت حدتها ودرجتها بين بني البشر، فأنها لا تبرر
التناحر على البقاء والصراع من اجل السيطرة، لان علاقة الصراع والسيطرة وإلغاء الآخر واعتباره شرا
يجب القضاء عليه علاقة تتناسب مع مملكة الحيوان الذي يحكمه قانون الغاب، أما الإنسان فباستطاعته أن
يستبدل علاقته مع غيره من علاقة سلبية أساسها الصراع والتنافر والكراهية وحب السيطرة إلى علاقة
ايجابية أساسها التواصل عن طريق التعاون والتجاذب والمحبة والتعارف والتعاون.واتصالنا بالغير عن
طريق التعاطف والمحبة ، فأن سارتر يرى أن المحبة ليس معناها الرغبة في امتلاك الغير كفرد حر،
والذين نحبهم في الواقع لا نمتلكهم بل نتواصل معهم بطريقة وجدانية ايجابية لأننا برأي سارتر لا نمتلك
في الحقيقة إلا الأشياء.
تجاوز الطرحين:
من الطرح المجرد إلى الممارسة العملية
• من خلال ما سيق طرحه تبين أن علاقة الأنا بالغير طرحت طرحا فلسفيا نظريا مجردا يعكس توصيفات
الفلاسفة لهذه العلاقة ومحاولة معرفتها.لكن من الناحية العملية ينبغي على الإنسان أن لا يجهد نفسه في
محاولة فهم فلسفة علاقة الإنسان بغيره، بقدر ما يجب الاتجاه نحو ذلك الغير بعاطفة المحبة والتعاون ونبذ
عاطفة العنف والاقتتال والصراع، أي يجب أن ننمي غريزة الحياة والبناء في مقابل التخلي عن غريزة
الموت والفناء.
• ولذلك فأن الصعوبات التي تعترض شعور الذات بذاتها وفي نفس الوقت تعترض معرفة الأنا التي
تغايرها هي صعوبات تفرض علينا وجوب الانطلاق من نظرة كلية موحدة وهي انه لا معرفة لهذا أو ذاك
من دون علاقة تنهض على جملة من القيم الأخلاقية الايجابية مثل الصداقة والإيثار والتسامح والتعارف
والتعاون ونبذ كل أشكال العنف والصراع بين الإنسان وأخيه الانسان.
الخاتمة (( حل المشكلة))
إن شعور الإنسان بذاته متوقف على معرفة الآخرين باعتبارهم كائنات تستحق المعاشرة والاحترام، وإذا
كان الشعور بالمغايرة ضروريا لتثبيت الذات وتأكيد خصوصياتها، فانه شعور لا يكتمل ولا يزدهر إلا
بوجود الآخرين والعمل معهم في ظل الاحترام والتعاون والمحبة.
منقول للفائدة