دقت الساعة السابعة ، وحا ن موعد العمل ، اتجهت الى الحافلة بعيون متلألئة تشع إشراقًا وبهجة ، وبقلب مفعم بالحيوية والنشاط ، واشمة على جبيني براءة الطفولة وقوة الشباب ، حاملة بين ذراعي أملا وتفاؤلا وإقبالا على الحياة .
جلست على كرسي المعتاد ،وقررت قتل قسوة الساعة التي تفصلني عن عملي بالنظر الى كل من حولي متأملة صنع الله تعالى ، وفجأة توقفت عيني دون حراك ، فحاولت تحريكها ولكنها أبت ، فاستسلمت لها فضولا مني لمعرفة سبب قوة الجذب هذه ، فإذا بها تنجذب الى لوحة فنية رسمت خطوطها بمهارة ودقة دالة على ابداع راسمها ومهارته ، لوحة فنية رسمت على وجنتي رجلا في التسعين من عمره حاملة عبر خطوطها قصص وروايات سجلت بصماتها على هذا
الوجه . ومن هنا بدأت مخيلتي بنسج أسبابًا وروايات لتبرر كل خط من هذه الخطوط البائسة ، وقررت الإبحار عبرها واقفة عند كل محطة سائلة أهلها ماالسبب ؟!!!
الفقر ! المآساة الكبرى التي رسمت الخط الأكبر ونقشته نقشًا . الفقر هذا الغول القاتل الذي يقضي على البسمة والسعادة والحب . كيف لا؟؟ وقد قال عنه علي بن أبي طالب : "لو كان الفقر رجلا لقتلته "" نعم فالفقر وباء إذا انتشر في الجسد أهلكه ، وفتت عظامه ، وأطفأ شمعته ، وحول حياته الى مقبرة للبؤساء .
الفقر ألم ولوعة وحسرة ، وكيف لا؟ وهو يُسمع طفلا يصرخ من الألم ... من البؤس ولا من مجيب !! كيف لا وقد جاء العيد تلو العيد ولايوجد مايلبس من الجديد ، كيف لا والبطن يصرخ مستنجدًا هل من مغيث ؟؟ كيف لا ولا ولا؟ .وقد صدق الشاعر حين قال :
الفقر سيف والسياف يتخذ القرار
فالصمت أبلغ من لساني والصمت أبلغ من كلامي
والصمت أبلغ من كلامك ...... من حروفك ...... من هذا الحصار .
وفي هذه الأثناء وأنا أغوص في أعماق الفقر رمشت عيني وكأنها تستيقظني من حلم عميق ، ولكن ماهي الا لحظات حتى عدت لذلك الوجه الذي أسرني ؛ ولم أعد قادرة على التحرر من قيده . عدت لأبحر من جديد عبر خطوط غريبة في الشكل والطول رسمت كمجموعة متساوية النهايات حفرت بقسوة ومرارة معلنه عن رواية حزينة خلفها صرخة مدوية تعلن عن عنوانها.
ولد عاق وُلِد صغيرًا ، رواه بعرقه نقطة نقطة ، رواه بدمه قطرة قطرة حتى كبر ونما وترعرع ، وأصبح شابًا يافعًا .
اشتد عود هذا الصبي ، وأراد إثبات رجولته على والده ، فحطم أمله ، وقتل فرحته وبهجته ، وبات هذا المسن يرقب بناءه سنينًا وسنينًا ينهار أمامه رويدًا رويدًا .
نعم كبر هذا الصبي وأصبح شابًا ناكرًا للجميل ، يطم رأسه خجلا من الاعتراف بهذا المسن كأب ووالد ، متناسيًا قول الله تعالى " وقضى ربك الا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا " وقوله تعالى " إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما " وقوله تعالى " أن اشكر لي ولوالديك إلي المصير " .متناسيًا أن الحياة سلف ودين ، وأنه كما تدين تدان . وهاهو مازال يجحد ويجحد حتى اكتمل نقش الزمن على وجه هذا البائس المسكين .
وفجأة هناك ماغير مجرى تفكيري ... عندما التفتت عيني لتلتقط خطوط بدت كمرآة تعكس روايتها بنفسها ....... وتروي تفاصيلها بحرقة وحسرة ، حتى بدت كأنها تصرخ مستنكرة للذل والمهانه والاستعباد ، بدت كجرح يقطر دمًا ولا يجد من يضمده ويعالجه ، نعم انه جرح العمل واستعباده وذله .!!!
ذل العمل كل من يسمع عنوان الرواية يتساءل متى كان العمل ذلا ؟؟ أجيب يكون كذلك حين يتحول الى استعباد ، الى احتقار ، حين يغمس الدينار بعرق المهانة ، حين يتحول الى تهكم رئيس على مرؤوس مسن دون احترام ولا حشيمة .
نعم كأني أعيش لحظات هذا المسن الآن ، كأني أعيش رغبته بالتمرد على الواقع ، كأني أعيش رغبته بقتل الجهل الذي صاحبه طوال سنين العمر ، كأني أعيش رغبته بتعلم حرفًا واحدًا يكون له كطوق نجاة يوصله الى بر الأمان ؛ ليتخلص من احتقار رئيسه ومعلمه،ولكن للأسف في نفس الوقت هاأنا أعيش معه لحظات الاستسلام للواقع واليأس من التغيير حتى وصلت معه الى اكتمال تقش الزمن لهذه الخطوط المقيتة على وجهه .
وهنا رمشت مرة أخرى ولكن هذه المرة كانت بسبب حرقة دمعة نزلت من عيني وأحرقت الجفون ، وهنا صرخت عيني متوسلة الي بالرحمة والشفقة ، صارخة يكفي إبحارًا ، فقد أضناني الشقاء ، وأتعبني الألم . ولكن فجأة ورغمًا عني اجتذبتني خطوطًا رسمت حول العينين وغطت الجبين ، معلنة أن ماوراءها أقسى من الصّوان ، كيف لا وهي قسوة المرض . ؟!!
مرض مزمن نخر العظم حتى النخاع ، أثقل الكاهل ، أحنى الظهر ، كسّر الهمم ، معلنًا نهاية المطاف . ولكنه مازال يصارع الحياة ، وما زال يعيش صراع البقاء حتى وصل الى هذا العمر متحديًا لليأس معلنًا بكل خطوة يخطوها لا يأس مع الحياة ولا حياة مع اليأس .
رمشت عيني معلنة التمرد على ماأفعله بها ، فاستسلمت لها هذه المرة ، ووقفت أمام نفسي أتساءل هل تحولت الى عرّابة أتكهن عبر الخطوط ، وأقرأ الماضي ، وأتنبأ بالمستقبل ؟؟ أم ماذا أفعل ؟؟ .
ولكن الواقع يقول أن فن العرابة والتكهن والتنجيم أبحر عبر هذه الخطوط ، وشكل خلالها شخصية الإنسان ، ومن ثم بدأ من يمتهنه في تشكيل اختبارات لتحليل الشخصية ، وإجراء دراسات حولها ، حيث أكدت دراسة صدرت عن معهد لندن للطب النفسي أن خطوط الوجه التي تظهر على زوايا العيون عند الابتسامة أو الضحك تدل على مدى مصداقية الشخص وقد توصلوا الى هذه النتائج بعد اجراء دراسة لردود أفعال عدد من الأشخاص المتطوعين وتفسير ملامح الوجه وتعبيراته المختلفة مع التركيز على العيون وأظهرت الدراسة ان الوجوه الضاحكة التي تظهر فيها خطوط الضحك جذبت انتباه المشاركين من حيث مصداقيتها اكثر من الابتسامات غير الصادقة. هذه دراسات ولكن لا نعلم مدى مصداقيتها .
ولكن لنقف وقفة صدق مع أنفسنا ، ولنعترف أن هذه الخطوط ماهي إلا بصمات الزمن على وجوهنا معلنة قدوم الشيخوخة ، ولكنها تختلف من شخص الى آخر ، فمنا من يطبع الزمن على خديه خطًا واحدًا ، ومنا من يرسم على وجنتيه خطين ، وهكذا كل حسب طعم الحياة .
والخلاصة أنه لابد من نقوش الألم والأمل على وجه البشر ، فالضحكة ترسم خطًا ، والدمعة تنقش خطًا ، فيزول الرسم مع الزمن ويبقى النقش مذكرًا بالألم ومذكرًا بقوله تعالى " لقد خلقنا الإنسان في كبد " وقول رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم " إن الله إذا أحب عبدًا ابتلاه " . إذن مهما أبحرت أيتها المخيلة ، ومهما استطرقت في نسج الروايات والقصص ، فالنتيجة واحدة إنه لحن تنشده الشيخوخة على قيثارة الزمن قائلة:-
كبرت وجاء الشيب والضعف والبلى
وكل امرئ يبكي إذا عاش ما عشت
أقول وقد جاوزت تسعين حِجَّة
كأن لم أكن فيها وليدا وقد كنت
وأنكرت لما أن مضى جُلّ قوتي
وتزداد ضعفًا قوتي كلما زدتُ
كأني إذا أسرعتُ في المشي واقف
لقربِ خطا ما مسها قِصرًا وَقتُ
وصرت أخاف الشيء كان يخافني
أُعد من الموتى لضعفي وما متُّ
وأسهر من برد الشتاء ولينه
وإن كنت بين القوم في مجلس نمتُ
منقووول
تحياتي رجاء عائشة