أقسام العقل
1 العقل الواعي :
عندما قال الفيلسوف الفرنسي " رينيه ديكارت " : " أنا أفكّر إذاً أنا موجود " ، كان يعني بكلامه عن العقل الواعي . فمن خلال العقل الواعي نجد أنفسنا و نتعرّف على ذاتنا و نشعر بها . يستمدّ العقل الواعي معظم معلوماته من البيئة المحيطة ، و يتواصل معها عن طريق الحواس المألوفة ( البصر ، السمع ، اللمس ، الشم ، الذوق ) . الإدراك الواعي يعكس لنا البيئة الخارجية ، ثم يقوم جهازنا الفكري بتحليل المعلومات التي جمعها و من ثم يخرج بقرارات مناسبة بناءً على ما أدركناه . و كل فرد منا يقوم بتحليل الأشياء و يتعامل معها وفقاً للمنطق أو النظرة الخاصة التي نشأ عليها .
وضع علماء النفس أمثلة كثيرة في سبيل شرح تكوين العقل و طريقة عمله بشكل بسيط يمكن استيعابه بسهولة . منهم من شبّه العقل بمياه المحيط ، و القسم الواعي منه يمثّل سطح المحيط الذي يتعرّض للبيئة الخارجية . لكن هناك أعماق لا متناهية في الأسفل ، مليئة بكميات هائلة من المعلومات ، لكنها غير مدركة من قبل العقل الواعي الذي هو على السطح و يقوم بتوجيه انتباهه إلى الخارج .
و شبهوا العقل بجبل من الجليد الذي يطوف على سطح المحيط ، القسم الظاهر فوق سطح الماء هو العقل الواعي و يعمل هذا القسم على التزوّد بالمعلومات المختلفة من البيئة المحيطة ( فوق الماء ) ، و كذلك من قسمه الخفي أو الباطن ( المغمور تحت الماء ) .
هناك من شبّه العقل الواعي عن طريق وصف عمل التلسكوب ( منظار بعين واحدة ) ، ينظر عقلنا الواعي من خلاله و لا يرى سوى الشيء الذي وجّه انتباهه نحوه ، دون إدراك العالم اللامحدود الذي يحيط بهذا الشيء المستهدف من قبل عين التلسكوب . فالوعي في هذه الحالة هو محصور في مساحة محدودة تتناسب مع مساحة عين التلسكوب .
لكن يبدو أن هذا الإدراك المحدود على الأشياء التي نقوم بتوجيه انتباهنا نحوها فقط ، هو لصالحنا . فإذا كان عقلنا الواعي مفتوح على مصراعيه في مواجهة ذلك الكم الهائل من المعلومات و اضطرّ بالتالي إلى التعامل معها مرّة واحدة فسوف ينفجر في الحال بسبب الحمولة الزائدة و سنصبح مجانين . فنحن لا نستطيع قيادة سيارة مثلاً ، في الوقت الذي نتعرّض فيه للملايين و الملايين من المعلومات اللامتناهية !. هذا طبعاً مستحيل ..
لهذا السبب ، وجب على العقل الواعي أن يكون محدود . قابل للتوجيه نحو أمر واحد فقط حتى نتمكّن من استيعاب هذا الأمر بسهولة و يسر .
2 العقل الباطن :
غالباً ما يتم الخلط بين العقل الباطن و العقل اللاواعي ( أو اللاوعي ) ، مع أن الفرق بينهما كبير . يقصد بالعقل الباطن ذلك القسم الموجود تحت عتبة الوعي مباشرة . أو ذلك التفكير الخفي الذي يقع تحت مستوى التفكير الواعي .
إذا عدنا إلى تشبيه العقل بمياه المحيط ، نجد أن العقل الباطن يمثّل تلك الطبقة الرقيقة من المياه الموجودة تحت السطح مباشرة ، بين المياه الدافئة المعرّضة للشمس ، و المياه العميقة الباردة التي لا يطالها نور الشمس أبداً .
عمل هذا القسم من العقل هو تسجيل الانطباعات التي يدركها العقل الواعي ، و تخزينها في مكانها المناسب من أجل استخراجها في الوقت المناسب ، كل ذلك يحصل دون علم أو إدراك من القسم الواعي . فالعقل الباطن النشيط يستطيع تحضير القرارات المناسبة التي وجب على الفرد اتخاذها دون العودة إلى التفكير طويلاً . و كذلك التصرفات المناسبة و حتى الإجابات المناسبة . تبدو هذه الظاهرة واضحة عند الأشخاص العفويين أو البديهيين .
و هذا أيضاً يفسّر قدرة بعض الأشخاص على إيجاد أجوبة سريعة لأسئلة تتطلب الإجابة عليها فترة من التفكير . أنا لم أقصد أجوبة غيبية ، بل تلك المستمدّة من المعلومات التي تم تخزينها مسبقاً في الذاكرة ، أي تم دراستها و استيعابها من قبل . أما المعلومات الغيبية ، فالمسئول عنها هو قسم آخر سنأتي إليه لاحقاً .
يعمل العقل الباطن وظيفة الرقيب ، أي مراقبة جميع تصرفاتنا و سلوكنا و التدخّل أثناء الخروج عن حدود هذه التصرفات . ( العقل الباطن لا يفرّق بين الصح و الخطأ ، بل هو يعمل على أساس المعلومات التي خزّنت فيه منذ الطفولة ، أثناء الخضوع لنظام التربية التي تختلف من شخص لآخر ، فهو يعتمد على البرنامج الذي زوّد به منذ الطفولة ، التصرفات الصحيحة بالنسبة له هي تلك التي نشأ عليها الفرد بأنه صحيحة ) .
العقل الباطن هو مسئول أيضاً عن الأفعال الأوتوماتيكية . أي إذا كنت تقود سيارة مثلاً ، و تتوجه نحو منزل أحد الأصدقاء ، و في طريقك إلى هناك ، راح تفكيرك ينشغل بأمور أخرى جعلك لم تعد تنتبه لقيادة السيارة ، لكنك بعد أن تستيقض من حالة الشرود التي كنت فيها ، تجد نفسك قد أصبحت أمام منزل صديقك . من الذي قاد السيارة خلال غيابك التام عن عملية القيادة ؟. الجواب هو العقل الباطن .
تختلف طريقة عمل العقل الواعي عن العقل الباطن ، فالعقل الواعي يعتمد على المنطق و التفكير الموضوعي الذي نشأ عليه الفرد ضمن بيئته الاجتماعية . و الإدراك المحصور ضمن حدود الحواس الخمس .
أما العقل الباطن ، فتفكيره غير موضوعي و لا يعتمد فقط على المعلومات القادمة من العقل الواعي ، بل يعتمد على معلومات خفية لا يمكن للعقل الواعي إدراكها ، و يتجاوب لها حسب الحالة .
3 العقل اللاوعي :
يعتبر هذا القسم الخفي من أكبر أقسام العقل . إذا عدنا إلى تشبيه مياه المحيط ، نجد أن العقل الواعي موجود على السطح و العقل الباطن هو تلك الطبقة الرقيقة بين المياه السطحية الدافئة و المياه العميقة الباردة ، أما اللاوعي ، فيمثّل القسم الأكبر من المياه ، و بالتالي ، يحتوي على مخزون هائل من المعلومات . و إذا استخدمنا تشبيه الجبل الجليدي ، نجد أن اللاوعي هو القسم الأكبر المغمور تماماً تحت سطح الماء .
يحتوي هذا القسم الخفي على جميع المعلومات التي تخص حياتنا الشخصية ، منذ اليوم الأوّل من ولادتنا حتى اليوم الأخير . و فيه تخزّن ذاكرتنا المنسية ( معلومات قد ننساها تماماً ) . و يحتوي أيضاً على معلومات تم إدراكها بواسطة الواعي و كذلك تلك التي لم ينتبه لها أبداً ( معلومات أدركناها دون شعور أو وعي منا ، لكن تم تخزينها في ذلك القسم الخفي اللامحدود ) .
يقوم هذا القسم بتخزين كل فكرة خطرت في بالنا ، كل انطباع عاطفي شعرنا به ، كل حلم ظهر في نومنا ، كل صورة شاهدناها ، كل كلمة تلفظنا بها ، كل لمسة لمسناها ... و يحتفظ بكل حادثة حصلت في حياتنا مهما كانت صغيرة . جميع علومنا و حكمتنا التي اكتسبناها من هذه الدنيا ، مخزونة فيه كما المكتبة التي تحتوي على كتب و مراجع . هذا القسم الخفي من العقل ، و الذي لمسنا وجوده في مناسبات كثيرة من خلال تجارب كثيرة أشارت إليه بوضوح ، هو ما يحاول البعض تجاهله و إنكار وجوده ، و إلحاقه بمفهوم العقل الباطن .
4 اللاوعي الجماعي :
هذا القسم الذي يشار إليه بالعقل الكوني أو الوعي الكوني أو غيره من تسميات أخرى . و الذي تضاربت حوله الآراء و النظريات و التحليلات . لكنهم اجتمعوا على حقيقة واضحة وحّدت بين جميع تلك المذاهب الفكرية المختلفة . حقيقة تقول أن هذه الكتلة العملاقة من المعلومات المختلفة ، و التي تحتوي على أفكار و تجارب كل من عاش على هذه الأرض ، و تعتبر كالمكتبة العامة ، لكنها مكتبة كونية يرجع إليها كل من في الوجود . هذا الكيان لا يمكن إدراكه أو الشعور به مباشرة ، لأننا نتمتّع بحالة وعي تمنعنا عن ذلك .
ذكرنا سابقاً بعض المفكرين و الفلاسفة الذين تناولوا هذا الكيان العظيم في دراساتهم المختلفة . لكن رجال العلم يفضّلون الاعتماد على نظرية عالم النفس "كارل غوستاف جونغ" الذي وضع نظريته المشهورة التي تناولت سيكولوجية الإنسان و علاقتها باللاوعي الجماعي . و قد عرّف هذا الكيان أيضاً بالوعي الخارق .
تم التوصّل إلى هذا المفهوم في أواخر القرن التاسع عشر ، حيث كان هذا العالم النمساوي يرافق أستاذه الشهير " سيغموند فرويد " أثناء جولة فحصية على إحدى المستشفيات النفسية . و قد توقّف مع أحد المرضى للحديث معهم ، و كان هذا المريض فقيراً و جاهلاً ( غير متعلّم ) . كان هذا المريض يقف بالقرب من النافذة ، فأشار إلى خارجها و قال :
" أنظر ، الشمس تهزّ بذيلها ... إنها تصنع الرياح " !.
هكذا يعمل حقل الوعي الكوني . هذا الوعي الجماعي الذي يخزّن خبرات الأفراد الشخصية من جهة ، و يلهمها لأفراد آخرين من جهة أخرى ، و ينقل خبرات الآخرين إليه . يحصل ذلك كله على مستوى اللاوعي ، دون أي شعور من العقل الواعي .
هذه الحقيقة الجديدة أدت إلى نشوء نظريات عصرية تميل نحو هذا التوجه الجديد . أهم هذه النظريات هي " نظرية الحقل الموفوجيني " التي وضعها عالم البايولوجيا البريطاني ، روبرت شيلدريك ، من جامعة كامبريدج .
الحقل المورفوجيني
يصرّ الكثيرون على أن "الدماغ"، إذا أصيب بعطل ما (كبير أو صغير) ، فهذا قد يمنع صاحبه من التمتع بالوعي ، أو يمنعه من التواصل فكرياً مع المحيط بطريقة أو بأخرى ، كفقدان الذاكرة مثلاً ، لأن الدماغ (كما يقولون) هو مصنع الأفكار الأساسي ، و هو مصدر العقل ، و مخزن الذاكرة ، ... إلى آخره .لكن في الثمانينات من القرن الماضي ، خرج عالم بيولوجي من جامعة "كامبرج" يدعى "روبرت شيلدريك" ،معلناً عن نظريته "الحقل المورفوجيني" Morphogenic Field . و قال أن الدماغ ليس سوى قناة تواصل مع العقل و ليس مكان وجود العقل . و قد أعطى مثال على ذلك بجهاز التلفزيون ، الذي يستقبل الإرسالات المختلفة ، لكنه ليس مصدر تلك الارسالات .فإذا أصيب التلفزيون بعطل ما و لم نستطيع الحصول على صورة صافية أو حتى أي صورة على الإطلاق ، هذا لا يعني أن الإرسال لم يعد موجوداً في الأثير .
و قد تقدم بنظريته الجديدة التي أقامت الدنيا و لم تقعدها ، خاصة في الأوساط العلمية التقليدية التي شّنت عليه هجوماً شرساً . ( كما هي العادة مع كل فكرة جديدة ) لكن هذا لم يمنع بعض العلماء من الاقتناع بهذه الفكرة التي ، كما قالوا ، قامت بملء فجوات كثيرة في دراسة بعض الظواهر التي لم يجد لها العلم المنهجي تفسيراً .
جاء شيلدريك بحزورتين مختلفتين ، من النوع الذي يظهر في الجرائد و المجلات لتسلية القراء . تتمحور كل حزورة حول ( البحث عن الصورة الضائعة ) .
قام بإظهر إحدى هاتين الحزورتين على شاشة التلفاز ، أمام الملايين من المشاهدين . ( في محطة البي . بي . سي التلفزيونية ) و قام بحلّها أمام هذا الكم الهائل من المشاهدين . أما الحزورة الثانية ، فقد جال بها فريق من الباحثين في الشوارع و المناطق العامة و قاموا بحلّها أمام بضعة مئات من الناس .
إذاً ، أصبح لدينا الآن حزورتين ، إحداها قد تعرّض للملايين من العقول و تعرّفوا على طريقة حلها ، و الأخرى تعرّضت للمئات من العقول و تعرفوا على طريقة حلها .
قام بعدها فريق من الباحثين بالسفر إلى مناطق نائية من العالم ، حيث لم يكن التلفزيون مالوفاً بينهم . وبعد عرض هاتين الحزورتين على السكان المحليين كانت النتيجة أنهم تمكنوا من حلّ الحزورة التي عرضت على شاشة التلفزيون بسهولة تفوق تلك التي عرضت للمئات فقط . و هذا أثبت أنه كلما ازداد عدد الناس المشتركين في فكرة معيّنة ، كلما كان لهذه الفكرة انطباع أعمق في العقل الجماعي ، مما يؤدي إلى ازدياد قوة تأثيرها على جميع الشعوب بشكل لاواعي !.
يسرد لنا العالم "ليال واتسون" ، في كتابه " تيار الحياة" عام 1970م عن حادثة وقعت على جزيرة يابانية ، ( سمى هذه القصة بمبدأ "عدوى المئة قرد" Hundred Monkey syndrome ) ، حيث قام الباحثون بإطعام القرود حبات البطاطا كغذاء يومي ، و قد أحبّ القرود هذا الغداء الجديد الذي لا يعرفونه من قبل ، لكنهم لم يحبوا رمال الشاطئ التي كانت تتعلّق بالحبّات ، فقام أحد القرود بغسل حبة البطاطا في مياه البحر قبل أن يتناولها ، و اكتشف أن طعمها أصبح أفضل بسبب زيادة ملوحتها نتيجة تغطيسها في المياه المالحة ، فراح القرد منذ ذلك الحين يأكل البطاطا بعد تغطيسها في ماء البحر . لكن بعد فترة من الزمن ، و على الجانب الآخر من الجزيرة ، راحت القرود الأخرى تستخدم نفس الطريقة في الحصول على البطاطا المالحة ، مع العلم أنهم لم يتواصلوا مع القرد الأول الذي هو صاحب الفكرة . و بعد فترة من الزمن ، و في جزيرة أخرى يعيش فيها قرود أخرى ، نشأت هذه العادة (أكل البطاطا المالحة) بين القرود ، و بالرغم من أنهم يعيشون في الغابة بعيداً عن الشاطئ ، راحوا يسافرون من الغابة إلى الشاطئ لكي يغطسون حبات البطاطا من أجل الحصول على الملوحة .
كيف انتشرت هذه الفكرة بين القرود بالرغم من تلك الحواجز الطبيعية التي يستحيل تجاوزها ؟
هنا تدخل مهمة "الحقل المورفوجيني" الذي تكلّم عنه "شيلدريك" .
يقول الدكتور "بول كابل"، مدير أحد مؤسسات البحث في "وعي الحيوان" ، أنه لازال هناك الكثير من الغموض في سلوكيات الحيوانات التي ليس لها تفسير من قبل النظريات السابقة ، كنظرية التطور مثلاً , فتعتمد نظرية التطوّر على فكرة أن التغيّرات و التطوّرات التي تحصل في الكائنات هي نتيجة لتغيرات جينية عشوائية في عملية "تطوّر الكائنات".
(فيختلف مفهوم "تقدم الكائنات" عن مفهوم "تطوّر الكائنات") .
و قد دعم شيلدريك فرضيته بالتجارب التي أقامها عالم النفس الشهير "ويليام مكدوغل" في جامعة "هارفارد" ، في العشرينات من القرن الماضي .
وضع مكدوغل عدداً من الفئران في خزان مليء بالماء له منفذين للهروب ، و جعل إحدى هذه المنافذ تطلق شرارة كهربائية خفيفة لكلّ فأر يمرّ منها (أي ممر مكهرب) .
أول جيل من هذه الفئران تلقى أكثر من 160 صدمة كهربائية (لكل فأر) قبل أن يتعلم تفادي ذلك الممرّ المكهرب . أما الجيل الثاني من الفئران ، فقد تفادى الممرّ المكهرب بدرجة أقلّ من الجيل السابق ، و الجيل الثالث من الفئران ، كان معدّل تفاديه أقل بكثير ، و هكذا ...
و بعد ثلاثين جيلاً متتالياً ، أصبحت الفئران تواجه فقط ما معدّله 20 صدمة لكل فأرة .
أثبت مكدوغل أن التجربة التي يخوضها الكائن الحي هي أيضاً عنصر متوارث إلى جانب التوارث البيولوجي (كالشكل و اللون و السلوك و غيرها). لكن نتائج مكدوغل واجهت نفس ما واجهته نظرية شيلدريك ، الهجوم الشرس من قبل المجتمع العلمي . فقد رفضوا اكتشافات مكدوغل الجديدة بشكل مطلق ، و ادّعوا بأنه قام بشكل مقصود بانتقاء جيل من الفئران الأذكياء و استخدمهم في هذه التجربة . فقرّر مكدوغل إعادة إجراء هذه التجربة ، لكن هذه المرّة استخدم الفئران الأكثر غباء . و كانت المفاجئة أن بعد 22 جيل متوالي ، كانت الفئران تتعلّم بمعدّل عشرة مرّات أكثر من أسلافها الغبية .
ربما هذا ما يفسّر حقيقة أن أغلبية الأطفال الذين في سن الثالثة و الرابعة من العمر هم أكثر براعة من الكبار في استخدام الكمبيوتر . يقول أحدهم تعليقاً على هذه الظاهرة : " هناك سببين لهذه الحقيقة ، إما تأثير الحقل المورفوجيني أو أنهم أقاموا دورات تدريبية في بطون أمهاتهم ".
أثارت تجارب مكدوغل الفضول عند الكثيرين الذين تحمسوا لهذه الفكرة ، و راحوا يجرونها في مختبراتهم الخاصة , كما هو الحال مع البروفيسور" و.ي أغار" ، من ملبورن أدنبرغ ، الذي صمّم خزانات مياه مشابهة لخزانات مكدوغل ، و راح يعيد التجارب ذاتها . لكن المفاجئة الكبرى كانت أن الجيل الأول من الفئران تعلّم تفادي الصدمة الكهربائية بشكل أسرع من الجيل الأول من فئران مكدوغل . حتى أن بعض هذه الفئران لم تخطئ في اختيار الممرّ المناسب ولو مرّة واحدة !.
أقام البروفيسور "أغار" تجاربه على مدى خمسة وعشرين عاماً ، و وجد أن الفئران التي لم تأتي من أجيال مدرّبة على تجربة الخزان كانت تتعلّم تفادي الصدمة الكهربائية بنفس سرعة الفئران التي جاءت من أجيال مدرّبة . و أكّدت نتائج تجارب الدكتور "أغار" ما توصل إليه "مكدوغل" من قبله .
أقيمت تجارب كثيرة حول هذا الموضوع و جميعها كشفت عن هذه الظاهرة بوضوح .
وضعوا مثلاً ، بعض الفئران في متاهة ، و عملت هذه الفئران جاهدة في سبيل التعرّف على السبيل الصحيح للخروج منها . لكن الأجيال اللاحقة قامت بإنجاز هذا العمل بسهولة . أما الأجيال التي تلت ذلك ، فلم تواجه صعوبة أبداً ! و هكذا ... ، حتى أن الفئران التي ليس لها أي صلة جينية أو وراثية بالفئران السابقة ، وجدت سهولة كبيرة في الخروج من المتاهة ! رغم أنها تعيش في بلاد بعيدة جداً عن الفئران الأوائل .
إحدى التجارب تمثلت بتعليم أغنية يابانية لمجموعة أشخاص يتحدثون بالإنكليزية و لا يفقهون عن اللغة اليابانية شيئاً . أعطوا هؤلاء الأشخاص أغنيتين يابانيتين مختلفتين و طلبوا منهم أن يحفظوهما . الأغنية الاولى كانت أغنية يابانية شعبية ، معروفة عند كل اليابانيين . أما الأغنية الثانية فكانت عبارة عن اغنية من تأليف أحد القائمين على هذه التجربة . و كانت النتيجة أن الأشخاص وجدوا صعوبة في حفظ الأغنية الثانية ، أما الأغنية الأولى ( المشهورة ) ، فقد حفظوها بسهولة و سرعة كبيرة .
و لكي نتقرّب أكثر لفهم هذه الفكرة ، سوف نوصف طريقة عمل هذا الحقل ألمعلوماتي على سكان جزيرتين تفصل بينها مساحات واسعة تبلغ ألاف الكيلومترات حيث لا يمكن التواصل في ما بينها بأي وسيلة من الوسائل ، و سكان كل جزيرة يجهلون أصلاً بوجود جزيرة أخرى غير جزيرتهم . لكن عندما يبتكر سكان الجزيرة الأولى أفكار جديدة و تصبح مألوفة في حياتهم اليومية . نلاحظ بعد فترة من الزمن أن هذه الأفكار قد ظهرت عند سكان الجزيرة الثانية و أصبحت مألوفة أيضاً . و بعد أن يعمل سكان الجزيرة الثانية على التعامل مع تلك الأفكار و من ثم تطويرها و إجراء بعض التعديلات فيها ، نجد أن هذه التعديلات قد ظهرت تلقائياً عند سكان الجزيرة الأولى .
الأفكار و التجارب و الانطباعات المختلفة التي تنبثق من الكائن الحي لا تفنى و لا تزول ، بل تأخذ لنفسها حيزاً مكانياً في الحقل المعلوماتي الكوني و تتراكم و تزداد كلما زادت الخبرات و التجارب الجديدة التي تخص تلك الأفكار .
إننا في الواقع جزء صغير من حقل غير مرئي ، يتوضّح و يثبت نفسه كلّ يوم
يقول "شيلدريك" : إن المفاهيم التي أثبتت أصوليتها في عملية فهمنا للوجود ، بدأت تميل إلى حقيقة ثابتة تقول :
" بدأ الكون يبدو كأنه عقل عظيم بدلاً من حركة ميكانيكية عظيمة ".
هذه العملية ليس لها علاقة بالتخاطر أو الانتقال المباشر للأفكار . لأنه يمكن للفكرة الجديدة التي تألفها مجموعة بشرية معيّنة أن تبقى سنوات عديدة قبل ظهورها بين مجموعة بشرية أخرى . لقد اكتشف الباحثون مظاهر كثيرة متشابهة تجلت بين القبائل و الحضارات المنتشرة حول العالم ، جميعها تشير إلى وجود هذه الظاهرة . فوجدوا مثلاً أن القبائل التي تعيش على ضفاف الأمازون في أمريكا الجنوبية تتشابه في طريقة حياتها مع القبائل الموجودة في أفريقيا و أسيا الجنوبية الشرقية التي تعيش على ضفاف الأنهار . فجميع هؤلاء يستخدمون الأدوات ذاتها و كذلك عاداتهم و تقاليدهم التي لا تختلف كثيراً . أما الحضارات القديمة التي انتشرت حول العالم ، فقد تشابهت جميعاً في طريقة البناء و تشييد الهياكل و كذلك الأساطير و الآلهة تكاد تكون متشابهة . رغم تلك الحواجز الطبيعية و المسافات الهائلة الفاصلة فيما بينها .
بالرغم من ذلك كله ، تنكّر المجتمع العلمي لهذه النتائج و رفضوا حتى النظر فيها .لكن هذا لا يعني أن المجتمع العلمي هو على صواب ، حيث أنه لا يمثل سوى منهج علمي محدّد ، و للأسف الشديد ، هو المنهج الذي يحكم العقول في هذا العصر ، إنه المنطق السائد . هذه التجارب و غيرها من الدراسات الكثيرة التي سحقها المجتمع العلمي تحت الأقدام ، إن دلّت على شيء ، إنما تدل على أننا أكثر بكثير من ما نحن عليه فكرياً و بيولوجياً .
بعد هذه المناسبة بفترة ، كان كارل جونغ يراجع كتاب ألماني قديم يعود إلى أكثر من ألفي عام ، حصل عليه من إحدى المكتبات العامة . و ذهل عندما قرأ فيه عن طقوس إحدى الاحتفالات الدينية القديمة ، حيث يمكن للمشارك فيها ، بعد تأدية الشعائر المناسبة ، أن يرى " ذيل الشمس و هو يهتزّ " ! و من ثم يأتي الوحي المقدّس عليه ليقول : " ذيل الشمس هو الذي يصنع الرياح " !.
تذكّر جونغ أقوال ذلك المريض في المستشفى ! و فتحت هذه الحادثة البسيطة مجال واسع من البحث ، الذي تناول فيما بعد ما يسمى ب " مصدر الرموز الجماعية في عقل الإنسان ".
و بعد رحلة طويلة من البحث و دراسة الحضارات الإنسانية التي نشأت عبر العصور ، كالحضارة المصرية القديمة ، و حضارة الأزتك ، و الهند ، و الهنود الحمر في أمريكا الشمالية ، و أوروبا القديمة ، لاحظ وجود تشابه كبير في طقوسهم الدينية ، و أساطيرهم ، و حكاياتهم الخرافية التي زخرت بها ثقافاتهم . فاستنتج أنه وجب وجود مصدر واحد نهلت منه تلك الحضارات المختلفة ثقافاتها المتشابهة إلى حد بعيد . و قد لامس هذا الاستنتاج مفهوم جديد يشير إلى وجود عقل كوني ، أو لاوعي جماعي ، تتصل به جميع العقول الفردية . كيان عقلي عظيم يوصل بين جميع سكان العالم ، الأموات و الأحياء ..
يمكن تشبيه هذا الكيان بالهواء الذي نتنفسه . أنأ أنهل من هذا الهواء الذي يحيط بي ، و الإنسان الذي هو موجود على الجهة الأخرى من الأرض ينهل من الهواء المحيط به ، لكن الواقع الذي لا ننتبه به هو أن كلانا ننهل من نفس الكتلة الهوائية العملاقة المحيطة بالأرض ، و هذا الكيان الهوائي العملاق يوصل بيننا بطريقة أو بأخرى ، لأنه في متناول الجميع .